الرومانسية
الرومانتيكية، الرومانسية، الرومانطيقية كلمات ثلاث يؤدين معنى واحدا، وينصرفن إلى ذلك المذهب الأدبي الذي أخذ يظهر في أوروبا بعد قرن ونصف من ظهور الكلاسيكية.
وتعد "الرومانسية"، ثورة على العقل وسلطانه، وعلى الأصول والقواعد السائدة في الكلاسيكية كافة، وبعبارة أوسع وأشمل، كانت الرومانسية تهدف إلى التخلص من سيطرة الآداب الإغريقية والرومانية، وتقليدها ومحاكاتها، وبخاصة حينما أخذت أقطار أوروبا تأخذ نفسها نحو الاستقلال في اللغة والأدب والفكر.
وتشتق الرومانسية من لفظة "رومانيوس" التي أطلقت على اللغات والآداب المتفرعة عن اللغة اللاتينية القديمة، التي كانت تعد في القرون الوسطى لهجات للغة روما القديمة، ولم تعتبر لغات وآداباً فصيحة إلا ابتداء من عصر النهضة، حيث أخذت هذه اللغات مكانها لغات ثقافة وعلم وأدب.
وقد اختار الرومانسيون "الرومانسية" ـ وهي إحدى لهجات سويسرا ـ عنواناً لمذهبهم، وتعبيراً عن معارضتهم لسيطرة الثقافة اليونانية واللاتينية على لغتهم وآدابهم القومية.
وعرفت "الرومانسية" بالابتداعية أو الإبداعية بسبب أنها تعد ابتداعاً في المذهب الكلاسيكي، وتقويضاً لمبادئه وأركانه.
وفي الواقع لم تكن "الرومانسية" ثورة على الآداب الإغريقية واللاتينية والكلاسيكية فحسب، وإنما كانت أيضاً ثورة على جميع القيود الفنية المتوارثة، واعتبرت هذه القيود، قيودًا ثقيلة حدت من تطور الأدب وحيويته، وتعبيراً عن طابع العصر، وثقافة الأمة وتاريخها.
لقد غلبت على الرومانسيين نزعة التمرد على هذه القيود التي التزمها الكلاسيكيون، فدعوا إلى التخلص من كل ما يكبل الملكات، ويقيد الفن والأدب، ويجعلهما محاكاة جامدة لما اتخذه اليونان واللاتين من أصول.
كانت الرومانسية ترمي إلى التخلص من كل الأصول والقيود التي أثقلت الأدب الكلاسيكي، لتنطلق العبقرية البشرية على سجيتها دون ضابط لها سوى هدي السليقة وإحساس الطبع.
كان الأدب الكلاسيكي يعد أدب العقل والصنعة الماهرة وجمال الشكل، والمواضيع الإنسانية العامة، واتباع الأصول الفنية القديمة. فجاءت الرومانسية لتشيد بأدب العاطفة والحزن والألم والخيال والتمرد الوجداني، والفرار من الواقع، والتخلص من استعباد الأصول التقليدية للأدب.
وكانت البلاد الفرنسية المهد الأول للرومانسية وللكلاسيكية، ولجميع المذاهب الأدبية والمناحي الفكرية حتى قيل: "إن فرنسا معامل أفكار لأوروبا"، ومما لا شك فيه أن الفرنسيين يمتازون بالعقول المتزنة والأفكار المنطقية الواضحة، وهذا مما يلائم المبادئ الكلاسيكية، على العكس من الإنجليز والألمان، إذ يتميزون بتشعب العواطف والغموض، والخيال الجامع الواسع الفضفاض.
أما الظروف التي نشأت فيها الرومانسية في فرنسا، ودعت إليها فما تقلبت فيه البلاد الفرنسية من أحوال سياسية واجتماعية واقتصادية، كونت لدى الفرنسيين تلك الحالة النفسية، والتمزق الداخلي والتغني بالآلام الفردية التي هي من مميزات الرومانسية.
ولعل من عوامل نشوء الرومانسية في فرنسا ما كان من هجرة بعض كبار كتباها إلى إنجلترا وألمانيا إثر قيام الثورة الفرنسية سنة 1789م، وتأثرهم بآداب تلك البلاد ومعطياتها الفكرية والثقافية، مما جعلهم يصدرون عن وحيها بكل حماسة وإعجاب. كتلك الحماسة التي أظهرها شاتوبريان "1768 ـ 1848م"، عندما عاد من مهجره إنجلترا، وتسنى له أن يترجم إلى الفرنسية "الفردوس المفقود" لجون ملتون، وكذلك الإعجاب الذي أبدته مدام دي ستايل "1766 ـ 1817م" ، حينما عادت من منفاها ألمانيا بهذا الأسلوب الجديد الساري في أدب الشمال، إذ قالت: "شعر أهل الشمال يناسب تفكير الأمم الحرة أكثر مما يناسبها شعر الإغريق" ، وكتبت دي ستايل عن ألمانيا كتاباً فريداً، أشادت فيه بالروح الألمانية، وعرفت فيه الفرنسيين بروائع الأدب الألماني الغارق في الرومانسية، وتعتبر دي ستايل من الرواد الأوائل لنشوء الرومانتيكية.
وإذا تجاوزنا الأسباب المباشرة لحدوث الرومانسية فإننا نجد كاتبين وفيلسوفين كبيرين أثرا في الحياة العقلية والأدبية الأوروبية، وإن كان هذا التأثير بعيداً عن محيط الرومانسية، ولكنه ـ على كل حال ـ ساعد على تمهيد أرض صلبة لنشوئها. وهذان الفيلسوفان هما: جان جاك روسو "1722 ـ 1778م" ، وفولتير "1649 ـ 1778م".
أما روسو فقد دعا إلى العودة إلى الطبيعة والحياة الفطرية، إذ إن أطماع الإنسان قد تطورت بتطور المجتمع، وأحس أنه في مجتمع يفرض عليه تبادل المصالح مع الآخرين، ومن شأن هذا أن يكوِّن في نفسه الأثرة وحب الذات والامتلاك والحرص، ولقد كان الإنسان الفطري البدائي سعيداً في حياته، وفي معيشته، آمناً في كوخه، لا يحمل لغيره من الناس إلا الخير والحب، وروسو هو صاحب المبدأ التربوي المشهور "علينا أن نترك الطفل يدرج وحده في الطبيعة ليكتسب خبراته بنفسه"، وكتابه "أميل" إنما هو شرح لهذا المبدأ.
وأما فولتير، فإنه نشر في أوروبا كلها أدب شكسبير "1564 ـ 1616م"، ونوه به، وهو أدب متحرر من النظام الإغريقي في بناء المسرحيات، على الرغم من أن شكسبير عاش في عصر الكلاسيكية، ولكنه لم يلتزم بمبادئها وأصولها، بل اعتمد على نفسه وخبرته في تكوين مسرحه، واستطاعت عبقريته أن تسعفه في ذلك، حيث أهلته للنجاح الباهر المنقطع النظير، وكان من حقيقة هذا النشر أن فطن الأدباء إلى أن في القرن السادس عشر ـ عصر ازدهار الكلاسيكية ـ من حاول التفلت من قيود الآداب الإغريقية والرومانية، اكتفاء بعبقريته وأصالته الفنية واجتهاداته الشخصية.
وبالطبع لم يعتنق فولتير جميع آراء شكسبير ويأخذ بها كلية، ولكنه اختار ما يلائم طبعه في تجديد الأدب الفرنسي، ولا شك أن لهذا التجديد أثراً في اهتزاز قيمة المذهب الكلاسيكي. ولم يكن فولتير ناقلاً لآراء شكسبير فقط، وإنما كان ـ بالإضافة إلى هذا ـ ناقداً اجتماعياً جريئاً في نقده، حتى إنه انتقد صكوك الغفران ورجال الكنيسة، وقد عرض فولتير آراءه في المسرحيات التي ألفها، وكانت سبباً لتهيئة الجو الملائم للرومانسية.
كذلك أخذ بعض الفلاسفة ـ غير هذين ـ يمهدون لهذا المذهب ويبشرون بعالم أفضل من أمثال الفيلسوف الفرنسي ديدرو "1713 ـ 1784م"، والفيلسوف الألماني كانت "1724 ـ 1804م" ، ولا شك أيضاً أن هؤلاء الفلاسفة أثروا في الأدب ونقده، حينما خالفوا أفلاطون في نظريته المشهورة "المثل". ومن متممات البحث أن أشير إلى أن هؤلاء الفلاسفة قد انصرفوا في أبحاثهم الفلسفية إلى سبر طبيعة الجمال وحقيقته وعلاقته بالمتعة، والفرق بين الجميل والنافع، واستطاعوا أن يحددوا نظرياتهم وآراءهم نحو الجمال، ثم أتى فلاسفة بدأوا من حيث انتهى أولئك، وفي مقدمتهم الفيلسوف الألماني الرومانتيكي فيشته "1762 ـ 1814م" ، والفيلسوف الألماني شوبنهور "1788 ـ 1860م"، الذي زرع فلسفة التشاؤم.
ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن تلك الأسباب المباشرة، وغير المباشرة لم تصنع بين عشية وضحاها الظروف التي نبتت فيها الرومانسية حتى غدت مذهباً أدبياً قائماً بذاته، كما أن تلك المؤثرات الإنجليزية والألمانية التي أشرنا إليها من قبل، لا تستطيع وحدها تشييد صرح الرومانسية لو لم تتضافر ظروف الحياة في فرنسا لتهيئة الحالة النفسية التي تصدر منها الرومانسية.
ودراسة الحوادث والتاريخ لاتهمنا إلا بمقدار تأثيرها علي نفسيات الأدباء واستجابتهم لردود فعلها ومعطياتها.
ولا شك أنه وجد في فرنسا عدد من الأدباء الناشئين استجابوا لنداء هذه الأحداث، وكانوا الانطلاقة للرومانسية.
وقد وصف الشاعر الرومانتيكي الفرنسي الكبير الفريد دي موسيه في كتابه "اعترافات فتى العصر" ، الحالة النفسية للأطفال والشبان بعد هزيمة نابليون، وإذلال فرنسا وفترة الضياع التي لم تعد مذهباً أدبياً فقط، وإنما غدت فلسفة وسلوكاً في الحياة أيضاً.
واتخذت الرومانسية من الشعر وسيلة للتعبير عن الذات، وما يكتنفها من ألم وشقاء وتشاؤم.
ولم تقيد الرومانسية نفسها بأصول ومبادئ فنية، كما حدث مثلاً في الكلاسيكية، إلا أنها قد بلورت بطريقة عفوية تلقائية بعض الاتجاهات التي أصبحت فيما بعد من مميزاتها من مثل "مرض العصر"، ويطلقونه على تلك الحالة النفسية الناتجة من عجز الفرد من التوفيق بين القدرة والأمل و"اللون المحلي" ، ويقصدون به محاربة الاتجاه الإنساني السائد في الكلاسيكية و"الخلق الشعري"، حيث قرر الرومانسيون أن الأدب ليس محاكاة للحياة وللطبيعة كما تذهب الكلاسيكية، بل خلقاً، وأداة الخلق هي الخيال المبتكر، مع ذكريات الماضي وأحداث الواقع الراهن وإرهاصات المستقبل.
ونحن لا نستطيع أن نلم باتجاهات الرومانسية ومميزاتها وسماتها، إلا إذا اطلعنا على روائع الرومانسيين من أمثال آثار فيكتور هيجو، والفريد دي موسيه، ولا مارتين، وورد زوورث، وكولردج، وبايرون، وشيلي Shelley، وكيتس.
وهنالك قصيدة للشاعر الفرنسي إلفريد دي موسيه أجمع النقاد على أنها من روائع الرومانسية، وهي بعنوان "ليلة أكتوبر"، وتجري علي صورة حوار بينه وبين ربة الشعر حول تجربة حقيقية عاشها الشاعر بكل أبعادها، وقاسى منها آلاماً مرة في حب عاثر، هو حبه للكاتبة الفرنسية "جورج صاند"، التي سافر معها إلى مدينة البندقية بإيطاليا، وهناك سقط مريضاً، وعاده طبيب إيطالي وقعت جورج صاند في حبه، وهجرت صاحبها الشاعر المريض الذي عاد إلى باريس كسير القلب ، محطم الأعصاب، وفي خلال تلك المحنة القاسية على قلبه أتته ربة الشعر "الإلهام" حيث جرى بينها وبينه حوار نقتطف منه ما يأتي(2):
ـ الشاعر: لقد تبدد الألم الذي أضناني، كما تتبدد الأحلام حتى لتشبه ذكراه البعيدة ما يبعث الفجر من ضباب خفيف يتطاير وندى الصباح.
ـ ربة الشعر: مابك إذن يا شاعري؟ ما هذا الألم الخفي الذي أقصاك عني، حتى ما أزال أشقى به ؟. ما هذا الألم الذي خفي عني وإن طال ما أبكاني؟.
ـ الشاعر: كان ألماً مبتذلاً مما يصيب الجميع. ولكننا نحسب دائماً ـ لخبلنا الجدير بالرحمة ـ أن ما يتسرب إلى قلوبنا من ألم لم يتسرب مثله إلى قلب أحد سوانا.
ـ ربة الشعر: لا.. مافي الألم من مبتذل إلا ألم نفس مبتذلة، دع ـ عزيزي ـ هذا السر ينطلق من فؤادك.. افتح لي نفسك، وتكلم واثقاً من أمانتك، فإن الصمت أخ للموت. ولكم شكا متألم ألمه فتعزى عنه، ولكم نجى القول قائله من وخزات الضمير!
ـ الشاعر: إذا كان لابد من الكلام عن ألمي، فوالله لا أدري بأي اسم أسميه: أكان حباً؟ أم جنوناً؟ أم كبرياء؟ أم محنة؟ وما أدري من سيفيد من سماعه وأنا بعد قاص عليك نبأه، وقد خلونا إلى أنفسنا في جلستنا هذه إلى جوار الموقد، خذي قيثارتك وتعالي إلى جانبي، ثم أيقظي ذكرياتي بعذب نغماتك".
ولا شك أن تلك المعاني الذاتية لا تلائم إلا الشعر الغنائي، حيث يجد فيه الشاعر المنطلق الرحيب.. إلا أن الرومانسيين لم يقتصروا على الشعر الغنائي فحسب، وإنما كانت لهم مشاركات في الأدب الموضوعي، وبخاصة الأدب التمثيلي، وبرزت في هذا الأدب أسماء لامعة، وكانت مسرحياتهم روائع خالدة في المذهب الرومانسي من أمثال دي موسيه، وفيكتور هيجو، والأخير هو الذي قام بترجمة مسرحيات وليم شكسبير إلى اللغة الفرنسية، ولم يكتف بالترجمة فقط، بل أخذ في دراستها واستنباط خصائصها ومهاجمة الكلاسيكية خلال تلك الدراسة، كما يلاحظ في مقدمة مسرحيته المشهورة "كرومويل"، التي هاجم فيها وحدة الزمان والمكان في المسرحية عند الكلاسيكيين؛ لأن المقصود من وحدة الزمان جعل المسرحية مشاكلة للحياة وكأنها صورة منها، ومن الأجدر إذا كان ذلك كذلك أن تحدد بساعتين أو ثلاث، وهو الزمن الذي يستغرقه تمثيل المسرحية لا بأربع وعشرين ساعة. كما هاجم مبدأ "فصل الأنواع" الذي يقتضي في المسرحية الكلاسيكية عدم اجتماع مشاهد المأساة إلى جوار مشاهد الملهاة في المسرحية، ويذهب إلى أن هذا المبدأ لا وجود له في واقع الحياة، إذ الحياة تتقلب من جد إلى هزل، ومن هزل إلى جد، وتتقلب معها عواطف الناس ومشاعرهم تبعاً لهذا التقلب.
هذه هي الرومانسية التي سيطرت على الآداب الأوروبية وقتا من الزمن، وكان لابد لها أن تنهار وتسقط في خضم المذاهب الناشئة كما حدث ـ تماماً ـ للكلاسيكية في خضمها. ولكن الرومانسية قدمت من نفسها عوامل وأسباباً ساعدت على سقوطها، وتغلب المذاهب الأدبية الناشئة من مثل "الواقعية"، و"الفنية" عليها، وذلك أنها تذهب إلى أن الأدب وحي وإلهام وخلق، لا صناعة ومحاكاة ونظام، الأمر الذي جعلها تنتهي عند المقلدين، وأصحاب الملكات الضعيفة إلى إهمال الصياغة اللغوية وتجويد الأسلوب وجماله، وعدم النظر في روائع الفحول من الأدباء، كما أدى بها هذا الأمر إلى إضطراب العواطف وتشتت المشاعر، واستخدام الأدب شعره ونثره في التعبير عن الذات والأنا، وهذا جعلها لا تهتم بالقضايا الإنسانية والوطنية السامية الكبرى حتى وصفت بأنها أدب الأبراج العاجية.
والأدب العربي الحديث ـ الذي هو صدى للآداب الغربية ـ كان له من الرومانسية حظ عظيم ونصيب وافر، وعلى أساسها وبوحي منها قامت المدارس الأدبية، كمدرسة الديوان، ومدرسة أبولو، أو جمعية أبولو للشعر، ومدرسة المهجر.
بل إن مدرسة الديوان ممثلة في زعمائها الثلاثة : العقاد، والمازني، وعبدالرحمن شكري، صدرت في نقدها لمسرحيات شوقي وشعره ونثر المنفلوطي من الرومانسية ومبادئها وتعاليمها، وتأثرت هذه المدرسة أكثر مما تأثرت بالرومانسية في الأدب الإنجليزي.
وصدى لهذه المدارس الأدبية في أدبنا العربي الحديث، لمعت نجوم لامعة في سماء الشعر الرومانسي الرقيق الحالم من أمثال الدكتور إبراهيم ناجي، صاحب دواوين: الطائر الجريح، وليالي القاهرة، ووراء الغمام، وعلي محمود طه في الملاح التائه، وليالي الملاح التائه، وأبي القاسم الشابي، وعمر أبي ريشة، وصالح جودت، وميخائيل نعيمة، ومن قبل هؤلاء جميعاً خليل مطران، ونورد فيما يلي مقتطفات من قصيدة شعرية تشيع فيها المعاني، والأخيلة الرومانسية لشاعر سورية الملهم عمر أبي ريشة (1910 ـ 1990م):
لمن تعصرُ الروحَ يا شاعرُ؟