إنها تنتشر في بلدنا كما ينتشر أنفلونزا الطيور، ويقضي في لحظات قليلة على أعداد هائلة من الطيور والدواجن، إنها ذلك المرض الخبيث الذي يجعل هذه البلاد - التي يراد لها دائما أن تكون سعيدة- ، تعيسة إلى أبعد الحدود. فقد يحدث أن تقوم باكرا في يوم من الأيام، لتكون في مقدمة الصف أمام باب المقاطعة لكي تحصل على وثيقة معينة، فإذا برجل أو امرأة يأتي بعد أن استفاق متأخرا، و يتجاوز الصف ويبتسم في وجه الموظف ويضع له الأوراق(- الفلوس أو الحبة- باللغة الدارجة) وسط الأوراق ويخرج مبتسما ومسرورا لما لقيه من حسن الاستقبال وحسن الانصراف، إنها معضلة الرشوة، لغة فقراء المغرب كما أغنياؤه، الأغنياء بالملايين والفقراء بالملاليم، الكل مستعد في دواخل نفسه أن يقدم مالاً مقابل خدمة هي أصلا حق من حقوقه الدستورية التي يضمنها له القانون، فلن تلج إدارة في هذا البلد دون أن تكون لديك نية مسبقة واستعداد نفسي لتقديم مقابل مادي لكي تذهب في حال سبيلك في أسرع وقت ممكن، وتنجو من "صداع الراس" الذي تسببه الإدارة المغربية، وحتى إذا قررت أن تكون نزيها وتعزم على عدم إعطاء أي شيء لأحد، يقابلك الموظفون بمقولة " فهم راسك" أو " سير حتى لغدا" وكل يوم عند هؤلاء هو غداً، لأن القلم عندهم يأبى أن يوقع على أرواق المواطنين إلا عندما يشم رائحة الرشوة تفوح في كل أرجاء المكتب.
هي أيضا لغة الكثير من رجال الشرطة في المغرب، فقد تقع ذات مرة في خطأ مروري أو عدم احترام إشارة معينة، فيرمقك الشرطي ويأمرك بالوقوف، لكي يطلب منك أوراقا ليست بطبيعة الحال أوراق السيارة، لكنها أوراق بنك المغرب لكي ينفخ بها جيوبه ويوصل حقه إلى من هو أعلى منه درجة، ويصبح الجميع مشتركا في جريمة المخالفة المرورية التي ارتكبها في البداية السائق الذي سلم الأوراق. فعلا إننا في هذه البلاد " السعيدة"، سلمنا الأوراق منذ زمن طويل، فكل قطاعاتنا الإدارية والصحية والعمرانية وغيرها، من كثرة طلبها لنا الأوراق، نفذ ما لدينا واستنجدنا في أكثر من مرة بالبنوك لكي تنقذنا من حالة فراغ الجيوب التي نعاني منها. الكل يطلب ويتسول في هذا المغرب، رغم وجود حسابات بنكية وأرقام تأجيرية لكل الذين يحترفون مهنة التسول بالطريقة المغربية الخالصة.
إن الرشوة التي استفحلت في المغرب جعلته يحتل رتبا مخجلة في مؤشر التنمية البشرية على الصعيد الدولي، بحيث صنف في الرتبة 124 على صعيد 175 دولة في سنة 2006، ما يعني أن أكثر من مئة وعشرين من دول العالم أحسن من المغرب، وهذه الدول كلها لن تكون طبعا في مصاف الدول المتقدمة، الأمر الذي يجب تداركه إذا أردنا فعلا أن نكون دولة ديمقراطية وحداثية، فلم تكن الحداثة يوما مصاحبة للرشوة والزبونية.
إنها المرض العضال الذي لن يترك هذا البلد المسكين يسير خطوة واحدةً إلى الأمام، فأغلب القطاعات إن لم نقل كلها، تشهد هذه الظاهرة، بل ويدافع عن بقائها الكثيرون من أبناء هذا الوطن لكي تُعتمد كلغة وحيدة للتفاهم وقضاء المصالح.
إننا مهما رفعنا من شعارات إصلاح الإدارة وحسن تدبير مداخيل الدولة، لن نتقدم ما دمنا لم نرفع شعار إصلاح العقليات التي تربت على هذه العادة الخبيثة، وضرورة التأسيس لإرادة قوية للقضاء على هذه العادة الدنيئة، والضرب بيد من حديد على الذين يثبت في حقهم إعطاؤها أو تسلمها، وإذا كانت لدينا إرادة فردية وعزم شخصي على عدم الدخول كطرف في لعبة الرشوة الخبيثة، فستنتج عنها إرادة جماعية تؤدي إلى محو هذه الظاهرة المشينة، فالله سبحانه تعالى ربط التغيير الجماعي بالتغيير الفردي أولا، في قوله جل وعلا :" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
إن هذا الوطن العزيز لم يعد يتحمل كل هذه الاستنزافات التي يتعرض لها يوما بعد يوم، إنه عانى بما فيه الكفاية، وبلغت فيه المشاكل حدا لا يطاق، فلا بد إذن من تضافر الجهود من أجل القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة وغيرها من الظواهر التي تكلف المغرب ملايير الدراهم من ميزانية الدولة والتي هو في حاجة ماسة إليها.
إن قوة هذا الوطن في قوة أبنائه ومسؤوليه، وازدهاره في نزاهتهم و استقامتهم وفضيلتهم.