الحديث التاسع عشر
---------------------
*عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال " يا غلام , إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك , احفظ الله تجده تجاهك , إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله , واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك , وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك , رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي " احفظ الله تجده أمامك , تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة , واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لك يكن ليخطئك , واعلم أن النصر مع الصبر , وأن الفرج مع الكرب , وأن مع العسر يسراً " .
*الشرح :
قوله " كنت خلف النبي " يحتمل أن راكب معه , ويحتمل أنه يمشي خلفه , وأياً كان فالمهم أنه وصاه بهذه الوصايا العظيمة .
قال : " إني أعلمك كلمات " قال ذلك من أجل أن ينتبه لها .
الكلمة الأولى :
قوله " احفظ الله يحفظك " هذه كلمة " احفظ الله " يعني احفظ حدوده وشريعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه يحفظك في دينك وأهلك ومالك ونفسك , لأن الله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين بإحسانهم .
وعُلم من هذا أن من لم يحفظ الله فإنه لا يستحق أن يحفظه الله عزوجل , وفي هذا الترغيب على حفظ حدود الله عزوجل .
الكلمة الثانية :
قال " احفظ الله تجده اتجاهك "ونقول في قوله " احفظ الله " كما قلنا في الأولى , ومعنى " تجده اتجاهك " أي تجده أمامك يدلك على كل خير ويقربك إليه ويهديك إليه .
الكلمة الثالثة :
قوله " إذا سألت فاسأل الله " إذا سألت حاجة فلا تسأل إلا الله عزوجل ولا تسأل المخلوق شيئاً , وإذا قُدر أنك سألت المخلوق ما يقدر عليه , فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن المسبب هو الله عزوجل فاعتمد على الله تعالى .
الكلمة الرابعة :
قوله " وإذا استعنت فاستعن بالله " فإذا أردت العون وطلبت العون من أحد فلا تطلب إلا من الله , لأنه هو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وهو يعينك إذا شاء وإذا أخلصت الاستعانة وتوكلت عليه أعانك وإذا استعنت بمخلوقٍ فيما قدر عليه فاعتقد أن سبب وأن الله هو الذي سخره لك .
الكلمة الخامسة :
قوله " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك " الأمة كلها من أولها إلى آخرها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وعلى هذا فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان فهو من الله في الحقيقة , لأنه هو الذي كتبه له وهذا حث لنا على أن نعتمد على الله تعالى ونعلم , أن الأمة لا يجلبون لنا خيراً إلا بإذن الله عزوجل .
الكلمة السادسة :
" وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك " وعلى هذا فإن نالك ضرر من أحد فاعلم أن الله قد كتبه عليك فارض بقضاء الله وبقدره ولا حرج أن تحاول أن تدفع الضر عنك لأن الله تعالى قال (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا )[الشورى40] .
الكلمة السابعة :
" رفعت الأقلام وجفت الصحف " يعني أن ما كتبه الله تعالى قد انتهى فالأقلام رفعت والصحف جفت ولا تبديل لكلمات الله .
*رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح , وفي رواية غير الترمذي " احفظ الله تجده أمامك " وهذا بمعنى " احفظ الله تجده اتجاهك " .
" تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة " يعني قم بحق الله عزوجل في حال الرخاء , وفي حال الصحة , وفي حال الغنى " يعرفك في الشدة " إذا زالت عنك الصحة وزال عنك الغنى واحتجت إلى الله عرفك بما سبق لك , أو بما سبق من فعل الخير الذي تعرفت به إلى الله عزوجل .
" واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك , وما أصابك لم يكن ليخطئك " يعني أن ما قدر الله تعالى أن يصيبك فإنه لا يخطئك , بلا لابد أن يقع , لأن الله قدره .
وأن ما كتب الله أن يخطئك رفعه عنك فلن يصيبك أبداً فالأمر كله بيد الله وهذا يؤدي إلى أن يعتمد الإنسان على ربه اعتماداً كاملاً ثم قال " واعلم أن النصر مع الصبر " فهذه الجملة فيها الحث على الصبر , لأنه إذا كان النصر مع الصبر فإن الإنسان يصبر من أجل أن ينال الصبر .
وقوله " وأن الفرج مع الكرب , وأن مع العسر يسرا ً " الفجر انكشاف الشدة والكرب الشديد جمعه كروب كمال قال تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا )[الشرح5-6] .
في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنها – فوائد :
*من فوائده :
ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو دونه حيث قال " يا غلام إني أعلمك كلمات " .
*ومن فوائده : أنه ينبغي لمن ألقى كلاماً ذا أهمية أن يقدم له ما يوجب لفت الانتباه حيث قال " يا غلام إني أعلمك كلمات " .
*ومن فوائد الحديث : أن من حفظ الله حفظه لقوله " احفظ الله يحفظك " وسبق معنى احفظ الله يحفظك .
*ومن فوائد الحديث : أن من أضاع الله –أي أضَاع دين الله- فإن الله يضيعه ولا يحفظه قال تعالى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ )[الحشر19] .
*ومن فوائد هذا الحديث : أن من حفظ الله عزوجل هداه ودله على ما فيه الخير وأن من لازم حفظ الله له أن يمنع عنه الشر إذ قوله " احفظ الله تجده تجاهك " كقوله في اللفظ الآخر " تجده أمامك " .
*ومن فوائد هذا الحديث : أن الإنسان إذا احتاج إلى معونة فليستعن بالله ولكن لا مانع أن يستعين بغير الله ممن يمكنه أن يعينه لقوله النبي صلى الله عليه وسلم " وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة " .
*ومن فوائد الحديث : أن الأمة لن تستطيع أن ينفعوا أحداً إلا إذا كان الله قد كتبه له ولن يستطيعوا أن يضروا أحداً إلا أن يكون الله تعالى قد كتب ذلك عليه .
*ومن فوائد هذا الحديث : أنه يجب على المرء أن يكون معلقاً رجاؤه بالله عزوجل وأن لا يلتفت إلى المخلوقين فإن المخلوقين لا يملكون له ضراً ولا نفعاً .
*ومن فوائد هذا الحديث : أن كل شيء مكتوب منتهى منه , فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة .
*ومن فوائد الحديث : في الرواية الأخرى أن الإنسان إذا تعرف إلى الله بطاعته في الصحة والرخاء , عرفه الله تعالى في حال الشدة فلطف به وأعانه وأزال شدته .
الحديث العشرون
------------------
*عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري – رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى , إذا لم تستح فاصنع ما شئت " واه البخاري .
*الشرح :
قال في الأربعين النووية : الحديث العشرون عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري – رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى , إذا لم تستح فاصنع ما شئت " يعني أن من بقايا النبوة الأولى التي كانت في الأمم السابقة .
وأقرتها هذه الشريعة " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " يعني إذا لم تفعل فعلاً يستحى منه فاصنع ما شئت هذا أحد وجهين , أي ففعله في المعنى الثاني أن الإنسان إذا لم يستح يصنع ما شاء ولا يبالي وكلا المعنين صحيح .
*يستفاد من هذا الحديث :
أن الحياء من الأشياء التي جاءت بها الشرائع السابقة , وأن الإنسان ينبغي له أن يكون صريحاً , فإذا كان الشيء لا يستحى منه فليفعله وهذا الإطلاق مقيد بما إذا كان في فعله مفسدة فإنه يمتنع الفعل خوفاً من هذه المفسدة .
الحديث الحادى والعشرون
-----------------------------
*عن أبي عمرو وقيل : أبي عمرة سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه – قال : يا رسول الله , قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك, قال " قل آمنت بالله ثم استقم " رواه مسلم .
*الشرح :
الحديث الحاوي والعشرون من الأربعين النووية عن أبي عمرو وقيل : أبي عمرة سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه – قال : يا رسول الله , قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك, قال " قل آمنت بالله ثم استقم " يعني قولاً يكون جامعاً واضحاً بيناً لا أسأل أحداً غيرك فيه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " قل آمنت بالله ثم استقم " آمنت بالله هذا بالقلب , والاستقامة تكون بالعمل , فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كلمتين تتضمنان الدين كله فآمنت بالله يشمل إيماناً بكل ما أخبر الله به عزوجل ن نفسه وعن اليوم الآخر وعن رسله وعن كل ما أرسل به , وتتضمن أيضاً الانقياد ولهذا قال " ثم استقم " وهو مبني على الإيمان ومن ثم أني ب " ثم " الدالة على الترتيب والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين , ومتى بنى الإنسان حياته على هاتين الكلمتين فهو سعيد في الدنيا وفي الاخرة.
*في هذا الحديث فوائد :
حرص الصحابة رضي الله عنهم على السؤال عما ينفعهم في دينهم ودنياهم .
ومنها عقل أبي عمرو أو أبي عمرة حيث سأل هذا السؤال العظيم الذي في النهاية ويستغني عن سؤال أي أحد . حيث قال " قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك " .
*ومن فوائده : أنه أجمع وصية وأنفع وصية ما تضمنه هذا الحديث , الإيمان بالله ثم الاستقامة على ذلك بقوله " آمنت بالله ثم استقم " .
*ومن فوائد هذا الحديث : أن الإيمان بالله لا يكفي عن الاستقامة بل لا بد من إيمان بالله واستقامة على دينه .
*ومن فوائد هذا الحديث : أن الدين الإسلامي مبني على هذين الأمرين , الإيمان ومحله القلب , والاستقامة ومحلها الجوارح , وإن كان القلب منها نصيب لكن الأصل أنها في الجوارح . والله أعلم .