النقد التاريخي
النقد التاريخي
(المفهوم ، النشأة ، الأسس ، الأعلام ، الانتقال إلى النقد العربي)
هو الصرح النقدي الراسخ الذي واجه أعتى المناهج النقدية الحديثة المتلاحقة التي "انبثقت خصما على المنهج التاريخي ، وكلها قد استمدت بصيغة من الصيغ قانونها الأساسي من الاعتراض عليه أو مناقضته جذريا"[1]. وهو منهج يتخذ من حوادث التاريخ السياسي والاجتماعي وسيلة لتفسير الأدب وتعليل ظواهره أو التاريخ الأدبي لأمة ما ، ومجموع الآراء التي قيلت في أديب ما أو في فن من الفنون.
فهو – إذن – يفيد في تفسير تشكل خصائص اتجاه أدبي ما ، ويعين على فهم البواعث والمؤثرات في نشأة الظواهر والتيارات الأدبية المرتبطة بالمجتمع ، انطلاقا من قاعدة (الإنسان ابن بيئته).
ويتكئ النقد التاريخي "على ما يشبه سلسلة من المعادلات السببية : فالنص ثمرة صاحبه ، والأديب صورة لثقافته ، والثقافة إفراز للبيئة ، والبيئة جزء من التاريخ ، فإذا النقد تأريخ للأديب من خلال بيئته"[2] ، وعلى هذا فهو "مفيد في دراسة تطور أدبي ما ، لكن لا في الكشف عن نتائج هذه الدراسة ، فالمنهج التاريخي – شأنه شأن الخطوط الأولية في الرسم – يمحى عندما تكتمل الصورة"[3]؛ إنه بتعبير آخر "تمهيد للنقد الأدبي ، تمهيد لازم ، ولكنه لا يجوز أن نقف عنده ، وإلا كنا كمن يجمع المواد الأولية ثم لا يقيم البناء"[4].
ومع القصور الواضح الذي يطبع (المنهج التاريخي) فإنه يظل "واحدا من أكثر المناهج اعتمادا في ميدان البحث الأدبي لأنه أكثر صلاحية لتتبع الظواهر الكبرى في الأدب ودراسة تطوراتها"[5]؛ إذ هو "المنهج الوحيد الذي يمكننا من دراسة المسار الأدبي لأي أمة من الأمم ، ويمكننا من التعرف على ما يتميز به أدبها من خصائص"[6].
يعد "النقد العلمي" (Critique Scientifique) ، الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر ، شكلا مبكرا للنقد التاريخي ، من أبرز ممثليه :
* هيبوليت تين / H.Taine(1828-1893) ، الفيلسوف والمؤرخ والناقد الفرنسي الشهير الذي درس النصوص الأدبية في ضوء تأثير ثلاثيته الشهيرة :
1 - العرق أو الجنس (Race)؛ بمعنى الخصائص الفطرية الوراثية المشتركة بين أفراد الأمة الواحدة المنحدرة من جنس معين.
2 - البيئة ، أو المكان أو الوسط ، (Milieu)؛ بمعنى الفضاء الجغرافي وانعكاساته الاجتماعية في النص الأدبي.
3 - الزمان أو العصر(Temps)؛ أي مجموع الظروف السياسية والثقافية والدينية التي من شأنها أن تمارس تأثيرا على النص.
* فردينان برونتيار / F. Brunetière(1849-1906) ، الناقد الفرنسي الذي آمن بنظرية (التطور) لدى داروين (1809-1906) ، وأنفق جهودا معتبرة في تطبيقها على الأدب ، متمثلا الأنواع الأدبية كائنات عضوية متطورة ، فكما تطور القرد إلى إنسان ، تطور الأدب كذلك من فن إلى آخر وقد ألف كتابه (تطور الأنواع الأدبية) سنة 1890 ، على غرار كتاب (أصل الأنواع) لداروين؛ حيث رأى أن الآداب تنقسم إلى فصائل أدبية مثلها مثل الكائنات الحية ، وأنها تنمو وتتكاثر متطورة من البساطة إلى التركيب في أزمنة متعاقبة حتى تصل إلى مرتبة من النضج قد تنتهي عندها وتتلاشى وتنقرض كما انقرضت بعض الفصائل الحيوانية.
ومن الأمثلة التي يسوقها برونتيار لتأكيد تطور الفنون بعضها عن بعض أن الخطابة الدينية (في القرن 17م) قد تحولت بموضوعاتها البارزة (كعظمة الإنسان وحقارته ، وزوال الحياة وفنائها ، والثقة بالطبيعة...) واستحالت إلى الشعر الرومنسي (في القرن 19م) الذي تغنى بالموضوعات ذاتها (التغني بالمشاعر الروحية والشكوى من الحياة واللجوء إلى الطبيعة)؛ فوحدة الموضوعات مع اختلاف الصياغة بين الوعظ والشعر دليل ، في نظر برونتيار وفقا لنظرية داروين ولا مارك ، على أن هذا منحدر من ذاك!..
إلى جانب رموز النقد العلمي ، فإن هناك أعلاما آخرين أرسوا أوليات النقد التاريخي في أوربا ، نذكر منهم :
* ش.أ. سانت بيف / Charle Augustin Sainte-Beuve (1804-1869) ، الناقد الفرنسي (أستاذ هـ. تين) الذي ركز على شخصية الأديب تركيزا مطلقا ، إيمانا منه بأنه "كما تكون الشجرة يكون ثمرها" ، وأن النص "تعبير عن مزاج فردي" ، لذلك كان ولوعا بالتقصي لحياة الكاتب الشخصية والعائلية ، ومعرفة أصدقائه وأعدائه ، وحالاته المادية والعقلية والأخلاقية ، وعاداته وأذواقه وآرائه الشخصية ، وكل ما يصب فيما كان يسميه "وعاء الكاتب" الذي هو أساس مسبق لفهم ما يكتبه ونقده. وقد عده محمد مندور عميدا للنقد التفسيري "الذي يحرص على الشرح والإيضاح ، والمساعدة على الفهم ، أكثر من حرصه على الحكم وتحديد القيم"[7] ، حتى وإن "كان نقده قد سمي بالنقد التاريخي فمن الواجب أن نفهمه على أنه هو النقد التفسيري"[8].
* غستاف لانسون / Gustave Lonson (1857-1934) ، ويعد هذا الأكاديمي الفرنسي الكبير الرائد الأكبر للمنهج التاريخي الذي أصبح يعرف كذلك بالانتساب إليه (اللانسونية : Lonsonnisme) ، وقد أعلن لانسون عن هويته المنهجية سنة 1909 ، في محاضرة بجامعة بروكسل حول (الروح العلمية ومنهج تاريخ الأدب) ، ثم أتبعها سنة 1910 بمقالته الشهيرة (منهج تاريخ الأدب) التي نشرها في مجلة الشهر (Revue du moi) ، وقد حدد فيها خطوات المنهج التاريخي، حتى غدت تلك المقالة "قانون اللانسونية ودستورها المتبع" على حد تعبير أحد الدارسين[9].
ثم واصل هذا النشاط "الانسوني" أكاديمي فرنسي آخر هو ريمون بيكار (Rymond Picard) الذي دخل في معارك نقدية ضارية مع عميد النقد الفرنسي الجديد رولان بارت / R. Barthes (1915-1980 ، انتهت بالإطاحة بالمنهج التاريخي.
أما في النقد العربي ، فيمكن أن تكون نهايات الربع الأول من القرن العشرين تاريخا لبدايات الممارسة النقدية التاريخية ، على يد نقاد تتلمذوا – بشكل أو بآخر – على رموز المدرسة الفرنسية ، يتزعمهم الدكتور أحمد ضيف (1880-1945) الذي يمكن عده أول متخرج عربي في مدرسة لانسون الفرنسية؛ فهو أول أستاذ للأدب العربي أوفدته الجامعة المصرية الأهلية للحصول على الدكتوراه من جامعة باريس ، وقد حصل عليها برسالة عن بلاغة العرب في الأندلس[10].
بالإضافة إلى : طه حسين (1890-1965) ، وزكي مبارك (1893-1952) ، وأحمد أمين (1886-1954)،...
على أن محمد مندور (1907-1965) يمكن عده الجسر "التاريخي" المباشر بين النقدين الفرنسي والعربي؛ فهو أول من أرسى معالم "اللانسونية" في نقدنا العربي ، حين أصدر كتابه (النقد المنهجي عند العرب) مذيلا بترجمته لمقالة لانسون الشهيرة (منهج البحث في الأدب) ، وكان ذلك في حدود سنة 1946 ، ثم أعاد طبع هذه الترجمة (مرفقة بترجمته لمقالة ماييه "منهج البحث في اللغة") سنة 1964.
ومنذ الستينيات ، أخذ النقد التاريخي يزدهر في كثير من الجامعات العربية على أيدي أشهر الأكاديميين العرب الذين تحولت أطروحاتهم الجامعية إلى معالم نقدية يقتفي آثارها المنهجية (التاريخية) طلبتهم ، ويتوارثونها طالبا عن أستاذ ، حتى ترسخ المنهج التاريخي ورسم ترسيما أكاديميا (يوشك أن يبدو مطلقا !) ، وأصبح من المجازفة الأكاديمية أن يفكر الباحث الجامعي في بديل لهذا المنهج.
ومن رموز هذا المنهج : شوقي ضيف وسهير القلماوي وعمر الدسوقي في مصر ، وشكري فيصل في سوريا ، ومحمد الصالح الجابري في تونس ، وعباس الجراري في المغرب ، أما في الجزائر فيمكن أن نذكر : بلقاسم سعد الله وصالح خرفي وعبد الله ركيبي ومحمد ناصر وعبد الملك مرتاض (في مرحلة أولى من تجربته النقدية) ، ... .
وعموما فإن النقد التاريخي قد اتّسم بالخصائص الآتية :
- الازدهار في أحضان البحوث الأكاديمية المتخصصة التي بالغت في ارتضائه منهجا واحدا لا يرتضى بدلا.
- الربط الآلي بين النص الأدبي ومحيطه السياقي ، واعتبار الأول وثيقة للثاني.
- الاهتمام بدراسة المدونات الأدبية العريضة الممتدة تاريخيا ، مع التركيز على أكثر النصوص تمثيلا للمرحلة التاريخية المدروسة (و إن كانت ثانوية وضعيفة فنيا ، لأن في مرآويتها واستجابتها للمؤثرات التاريخية مندوحة عن أي شيء آخر!) ، مع إهمال التفاوت الكبير بين أدباء يتحدون في الزمان والمكان؛ كأن هذا المنهج عاجز – بطبعه – عن تفسير الفوارق العبقرية بين المبدعين المنتمين إلى فضاء زمكاني موحد.
- المبالغة في التعميم ، والاستقراء الناقص.
- الاهتمام بالمبدع والبيئة الإبداعية على حساب النص الإبداعي ، وتحويل كثير من النصوص إلى وثائق يستعان بها عند الحاجة إلى تأكيد بعض الأفكار والحقائق التاريخية.
- التركيز على المضمون وسياقاته الخارجية ، مع تغييب واضح للخصوصية الأدبية للنص.
- التعامل مع النصوص المدروسة على أنها مخطوطات بحاجة إلى توثيق ، أو تحف مجهولة في متحف أثري ، مع محاولة لم شتاتها وتأكيدها بالوثائق والصور والفهارس والملاحق.
وهكذا تبدو الأهمية الأساسية لهذا المنهج في أنه يقدم جهودا مضنية في سبيل تقديم المادة الأدبية الخام ، أما دراسة هذه المادة في ذاتها فإنها أوسع من أن يستوعبها مثل هذا القالب المنهجي